ابدأ الكتابة من هنا...
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبي الله محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم يبعثون أما بعد:
فقد اعتنى الشارعُ الحكيم ببيان أحكام التجارةِ والبيع والشراء والشركات ومن ذلك:
آية الدين قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فبين الله سبحانه وتعالى كتابة الدين، وهي مسلكٌ مهم يحفظ به الحقوق وتصان.
وقال تعالى : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا )
أما لفظ الشراكة فقد ورد في القرآن الكريم قال تعالى " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ) وقال- عز وجل- في قصة داود مع الخصمين: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }
[ وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: ( أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحباً بأخي وشريكي )رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجة ].
أما لفظ التجارة فقد ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم
قال تعالى ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ )
وقال سبحانه (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)
وقال جل وعلا ( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ) وأصبح بذلك المسلك التجاري في العصر الحديث ضامنًا لهذه الأبواب والمسائل الفقهية في كتب البيوع والمعاملات الإسلامية مع ما ورد من تحديث ومسائل ونوازل .
واستتبع ذلك المسلك الشرعي التجاري بالبحث والتدقيق الفقهاء السُنة من كافةِ المذاهب، وأفردوا لها أبوابًا وأقسامًا في كتبهم، ذات رؤىً دقيقة مصقولة، وفروع مُنتجة معقولة مع تبين مورد الأحكام، والأدلة. ويلحظ اعمال نظرٍ عميق للفقهاء في هذه المسائل ما ألقى بالأثر تبعًا على القضاء الإسلامي الذي يتخذ الأدلة الشرعية في النظر للوقائع والحكم، هكذا أصبح لهذه الاعتبارات العميقة أثرًا ملموسًا على التوصيف القضائي، وبذلك أصبح فقهاء الأمصار القضاة يحكمون وفقًا لما توصلوا له من عمق الاستقراء للدلالةِ والأثر… أصبحت طرق النظر واتخاذ الأدلة طريقًا يتوصل بهِ إلى الحكم الشرعي.
وبعد نماء الدولة السعودية، التي قام قضاؤها على الإسلام، حصل من التطور والتنظيم ما ضبط و دون الأحكام القضائية التي يفيد منها الباحث الجاد والمتخصص وأصبحت الوثائق المتبقية من أطوار الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة دالة على المنهج خصوصًا إذا ما قورنت بما قبل نشوء الدولة وهي مُبرزة في القانون والشريعة والمحاماة على وجهٍ خاص إذ هذه المنظومة مصبٌ في موردِ العدل وتتبع الحكم، بعد الاستقرار والنماء الذي حصل في دولة آل سعود الثالثة حين أسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى على الكتاب والسنة، وبذلك تولى القضاء من المشايخ المعتبرين الثقات ما حدث معه عمل قضائي متتابع حدد مسلكًا خاصًا في الحُكم واعتبار المدارس الفقهية و وسع الاجتهاد القضائي، حدّ تكونِ نظراتٍ خصيصة ومسالك فريدة امتاز بها القضاءُ السعودي، دون اغفال عالمية الجانب التجاري في القانون حيثُ الاتصال بالعالم يعمل آثاره في التعاملات فيكون الاختلاف بذلك أقل ولما اعتاد عليه أهل التجارة من الاعتبار فيما بينهم ومضي العُرف و الاسم التجاري أو العلامة التجارية…
ولمّا كان القضاء التجاري في الأولِ تبعًا لقضاءِ الدولة في (ديوان المظالم) اتسم العمل فيهِ اضافةً لما للشريعةٍ من أثرٍ إلى إعمال للطريقة المتخذة لما هو معتبر تجاريًا حتى سلخ وعاد إلى القضاء العام بطريقته و اندراجه، وفي عهده خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله صدر نظام المحاكم التجارية في ١٤٤٠/٠٨/١٥ هـ والذي يعتبر نقلةً نوعية في الأنظمة القضائية في عدة نواحٍ منها:
١/ الاعتبار الشكلي في الدعوى
٢/ حصر الترافع في بعض الدعاوى على المحامين
٣/ اعمال خطة التقاضي
٤/ اعمال المصالحة والحث على الوسائل البديلة لفض النزاع
٥/ تحديد أحكام مشمولة بالنفاذ المعجل
٦/ اعتبار الدليل الإلكتروني حجة بالإثبات
٧/ تقديم الشهادة مكتوبة
وغيرها كثير،،،
وبالأخص أثر اعمال القوانين الجديدة ونظام الإثبات أيضًا إذ يقطع النقاش في كثيرٍ من الاثباتات المؤثرة في الوضع التجاري، وقد أشار صاحب السمو الملكي ولي العهد محمد بن سلمان - حفظه الله ورعاه - إلى أهمية هذه التعديلات " وأشار الأمير محمد بن سلمان إلى أن «عدم وجود هذه التشريعات أدّى إلى تباين في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، ما أدّى لطول أمد التقاضي الذي لا يستند إلى نصوص نظامية، علاوة على ما سبَّبه ذلك من عدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم». وأضاف: «لقد كان ذلك مؤلماً لكثير من الأفراد والأسر، لا سيما للمرأة، ومكّن البعض من التنصل من مسؤولياته، الأمر الذي لن يتكرر في حال إقرار هذه الأنظمة وفق الإجراءات النظامية».
مما أصبح فيه العمل القانوني محددًا حسب الإجراءِ المُعين ويتطلب فيهِ الاتساق، وعدم التشعب، والدقة. ويسير بالمنظومة العدلية إلى الإنجاز.
وفي مدونةِ الفوائدِ من القضاءِ التجاري يلحظُ المطالع اضاءاتٍ على الأحكامِ القضائيةِ ذات البيانِ الراسخ والنظرِ العميقِ المُبرز لعمق الاتخاذِ القضائي في المملكة العربية السعودية حيث تشكل أهميتها لأمورٍ منها:
أولاً: المضي في الصيرورةِ إلى توقعِ الحكمِ وأسبابهِ ومآلاتهِ، مما يسهم في ارساءِ المعاملاتِ التجاريةِ على جادةٍ و وضوح يسهم في تعزيز البيئة التجارية المحلية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية ورعاية المسلك القانوني بتقريب المظان إليهِ وتعزيز الوصولِ إلى الاحتراف في مسالكه.
ثانيًا: تشرب المسلك النظامي والقضائي في تقدير الاثباتات التجارية، وما يرتبطُ بها من عناصرٍ وأدوات شكليةٍ هامة معززًا الوعي بها وأهميتها ومن ذلك:
١/ الإخطار ٢/ المصالحة ٣/ الرفع من محام ٣/ شكليات أوامر الأداء ٤/ تحديد نطاق الدعوى …
ثالثًا: ارساء الحالات التعاقدية على مستوى يوفر الحماية لجميع الأطراف في ظلِ ما يعزز ذلك من الأنظمة:
١/ نظام التكاليف القضائية ٢/ نظام الإثبات ٣/ السير لجعل عقود المحامين تنفيذية…
وسيجد القارئ الكتاب معين على الاستقراء في مجاله وموضوعاته، ويحصل بذلك بمعرفةِ وجهات الحكم وطرقه مما يسهم في ضبط معاملاته القانونية وعقوده على وجه صحيح.
ومن الأمورِ الهامةِ التي يعالجها هذا الكتاب الفذ في بابهِ الأول: الجوانب الشكلية في الدعوى التجارية حيث قسمها إلى ثلاثة أقسامٍ
ق١: مذكرة الاختصاص. حيث أشار المؤلف إلى أهمية هذا القسم، ومورد الاختلاف فيه، ولما للاختصاص من أهميةٍ بارزة عند القاضي و المتقاضي ولما للوعي الجيد فيه من تقليصٍ للوقت والجهد، وهو من الجوانب التي يعمل فيها النظر القانوني.
ق٢: أسباب عدم قبول الدعوى أمام المحكمة التجارية. وأورد فيها المؤلف بعد استقراء الأحكام من شهر محرم سنة ٤٢ هـ حتى شهر جمادى الثاني لنفس العام. ولما لهذه الأسباب من أهميةٍ بالغة خصوصًا بعد اعتبار نظام التكاليف القضائية، وقد أشار المؤلف لعدد من الأسباب منها
١/ عدم الصفة ٢/ عدم تحرير الدعوى ٣/ ورود الدعوى على محل صحيح وعلى محل خلاف ٤/ عدم الاخطار ٥/ عدم اللجوء للمصالحة في القضايا اليسيرة وغيرها … والوعي بهذه الأسباب يؤدي إلى ضبط الدعوى التجارية بمعاييرها الدقيقة والنوعية لوقوعها في محلٍ له خصوصيته.
ق٣: مسائل رفع الدعوى قبل أوانها. وقد أشار المؤلف إلى شكليات القضايا ومدى اشكاليتها لدى المتقاضين…حيث اعتبار "الجانب الشكلي في الدعوى والذي يعتبر القنطرة للنظر في الموضوع" ومما ذكر: ١/ المطالبة بالتعويض يكون بعد ثبوت أصل الحق ٢/لا يسوغ المطالبة بالاستحقاق المعلق على شرط حتى يتحقق الشرط ٣/ يجب اتباع الاجراءات المنصوص عليها في نظام التحكيم قبل رفع الطلب بتعيين محكم ….
ولهذه الجوانب الشكلية أعظم الأثرِ على القضاء التجاري لاشتمال النظام على جوانب شكلية عديدة وجب على المترافع والمتخصص معرفتها والوعي بدقائقها وما يحتف بها من اتخاذٍ اجرائي.
وفي الباب الثاني من مدونة الفوائد من القضاء التجاري: الجوانب الموضوعية في القضايا التجارية والتي قسمها المؤلف ٥ أقسام:
ق١: الفوائد والقواعد من قضايا التعويض. ومن أهميتها كونها مآل عديد من العقود التي لا تُراعى بنودها، وفي فهم اعتبار القضاء لها وفق الأدلة الشرعية منقح لها عما يعتري بعض المطالبات التي لا تتوافق مع النظام في المملكة العربية السعودية.
ق٢: الفوائد من قضايا أتعاب المحاماة. ولما لارتباط المحاماة بخصوصيةٍ في المجال التجاري، وامتداداته، حيث ما فيه من عقودٍ لا تنفك عن عناية أهل الاختصاص كعقود الامتياز التجاري، و أمور العلامة التجارية وتسجيلها وغيرها فدور المحامي في هذا بين وراسخ ولما لاشتراط من رفع المحامي لبعض الدعوى والترافع في بعضها كما ذكر النظام.
ق٣: القواعد والفوائد من قضايا المقاولات. ولما لهذا النوع من المعاملات من أهمية متزايدة في الحالِ وفي المآل حيث تسارع التطور العمراني التي تحظى به البلاد، واستقطاب الشركات الأجنبية، ولما لهذا القسم من خصوصيةٍ قانونية بما يشتمل عليه من أعراف واعتبارات خاصة.
ق٤: القواعد والفوائد من قضايا منازعات الشركاء وإن من المواضيع المهمة في هذا الكتاب في قسمه الرابع: منازعات الشركاء وما يحتف بها من مسائل وقضايا نوعية دقيقة وذات أثرٍ واعمالٍ للنظرِ في معالجات هذه العلاقات التعاقدية النوعية على ضوءِ الفقهِ الشرعي والنظامي، وهو خصيص في بابهِ عميقٌ في حيثياتهِ صاقلٌ لملكةِ النظرِ القانونيّ والفقهي لمطالعةِ بإذن الله تعالى.
ق٥ : فوائد واقتباسات متنوعة من مدونة الأحكام يمكن لمطالعها تلمس كافة الموضوعات المطروحة وغيرها حيث يعطي للكتاب شمولية رائعة.
وقد أعمل الأستاذ عبدالله الحمودي منذُ نشر الأحكام القضائية النظرَ متأملاً في مُجريات الأحكام التجارية وأصبح الشيخ عبد الله بن تركي من أوائل من ألف في القواعد والفوائد من الأحكام القضائية المنشورة عن وزارة العدل ما حقق تحديدًا للمعلومة مع تعيين مظانها مما أسهم في إثراء المؤلفات التي تزيد من الحصيلة العمَلية للمحامي والمستشار القانوني بما يتخلل ذلك من فوائد شرعية وفقهية ونظامية، وهي مما يفيد منه المترافع أمام المحاكم التجارية السعودية إذ تصقل نظره اتجاه القضايا وفقًا لما تُعارف عليه من السوابق القضائية المؤثرة.
وفي هذا العمل الجاد نجدُ تعيينًا للفوائد من مدونة القضاء التجارية، وهو حصيلة نظر عن الأحكام المنشورة عن الأحكام التجارية بالمملكة العربية السعودية حيث كان لإسهام وزارة العدل بنشرها وجودًا محمودًا، واسهامًا مرموقًا، في تعزيز العدلِ وتثقيف روادهِ و متخصصيه.
إن هذا التأليف قيمٌ ببحثه القضايا التجارية متلمسًا الجوانب الهامة في المسار التجاري وقرر مجموعًا مهمًا في القواعد والفوائد التي أرستها وأخذت بها الأنظمة السعودية في الفقه والأنظمة، ولابدّ أن يكون ذلك محفوفًا بما يمسهُ من الأنظمةِ والقوانين فيجد بها القارئ غناءً ومعرفةً غزيرة قد بنيت على العملِ القضائي التجاري بالسعودية.
وهو بحثٌ متخصص جاد يفيد القارئ، ويوجه المتخصص نحو بناءٍ قانوني وشرعي سليم في مرافعاتهِ وتقديمه استشاراته القانونية في ظل اختلاف المدارس القانونية والآراء الفقهية والتي قد تكون مما لا يعمل به بالقضاء السعودي، لذلك وجدت هذا المؤّلف مهمًا في موضوعه دقيقًا في تعيين قواعده وفوائده مع ذكر محلها في الأحكام المنشورة فهو خلاصة الخلاصة في القضاء التجاري السعودي.
وأتمنى لمؤلف هذا الكتاب النفيس فضيلة الأستاذ عبد الله بن تركي الحمودي التوفيق والسداد وأن ينفع بهذه السلسلة الصقيلة القارئ و المتثقف في القوانين والفقه التجاري.
والحمد لله رب العالمين،